كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ققد رزقكم الله رزقاً حسناً، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان.. بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة، أو غضب في الأخذ والعطاء.
{و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط}..
إما في الآخرة عند الله. وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغضب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة. وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك.
ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية:
{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط}..
وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة.
وللعبارات ظل في الحس. وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص، فهو أكثر سماحة ووفاء.
{ولا تبخسوا الناس أشياءهم}..
وهذه أعم من المكيلات والموزونات. فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع. تقويمها كيلاً أو وزناً أو سعراً أو تقديراً. وتقويمها مادياً او معنوياً. وقد تدخل في ذلك الأعمال والصفات. لأن كلمة شيء تطلق أحياناً ويراد بها غير المحسوسات.
وبخس الناس أشياءهم فوق أنه ظلم يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد، أو اليأس من العدل والخير وحسن التقدير.. وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر، ولا تبقى على شيء صالح في الحياة.
{ولا تعثوا في الأرض مفسدين}..
والعثو هو الإفساد، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد، قاصدين إلى تحقيقه. ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير:
{بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين}..
فما عند الله أبقى وأفضل.. وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده أي الدينونة له بلا شريك فهو يذكرهم بها هنا، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم، واتبعوا نصيحته في المعاملات. وهي فرع عن ذلك الإيمان.
{بقية الله خير لكم.
إن كنتم مؤمنين}..
ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه، ويبين لهم أنه لا يملك لهم شيئاً، كما أنه ليس موكلاً بحفظهم من الشر والعذاب. وليس موكلاً كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولاً عنهم إن هم ضلوا، إنما عليه البلاغ وقد أداه:
{وما أنا عليكم بحفيظ}..
ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر، وبثقل التبعة، ويقفهم وجهاً لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ.
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد، وسوء الاستغلال:
{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد}..
وهو رد واضح التهكم، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعة. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس، والمعاند بلا معرفة ولا فقه.
{أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}..
فهم لا يدركون أولا يريدون أن يدركوا أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله، ونبذ ما يعبدون من دونه هم وآباؤهم، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة.
وقبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معاً بالمعاملات.. قبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكاً من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يقولون: إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله، ووفق أمر غيره.. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله..
وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف فلقد قامت أزمة في الكنيست مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها من غير اليهود أطعمة غير شرعية. وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده مهما تعرضت للخسارة فأين من يدعون أنفسهم مسلمين! من هذا الاستمساك بالدين؟!!
إن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون! من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية.
وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم. يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله المتحضرون؟!. فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا}..
وهم يتساءلون ثانياً. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد... فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الأقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية النظرية الأخلاقية مثلاً ويعدونها تخليطاً من أيام زمان!
فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى. ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق.. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود!!!
وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان!
ويسخر أهل مدين من شعيب كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد فيقولون:
{إنك لأنت الحليم الرشيد}..
وهم يعنون عكس معناها. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين!!!
ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه؛ ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم.. يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات؛ فهو لا يبغي كسباً شخصياً من وراء دعوته لهم؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس. وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون:
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.
{يا قوم...}..
في تودد وتقرب، وتذكير بالأواصر القريبة.
{أرأيتم إن كنت على بينة من ربي}..
أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه. وعن هذه البينة الواضحة في نفسي، أصدر واثقاً مستيقناً.
{ورزقني منه رزقاً حسناً}..
ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها.
{وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}..
فأنهاكم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعاً به!
{إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}..
الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه؛ وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي، ويضيع بعض الفرص. فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة؛ ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متضامناً متعاوناً لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام!
{وما توفيقي إلا بالله}..
فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي.
{عليه توكلت}..
عليه وحده لا أعتمد على غيره.
{وإليه أنيب}..
إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي.
ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط: فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير: {ويا قوم لا يجرمنَّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد}..
لا يحملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم. وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان. وقريب كذلك في الزمان. فمدين كانت بين الحجاز والشام.
ثم يفتح لهم وهم في مواجهة العذاب والهلاك باب المغفرة والتوبة، ويطمعهم في رحمة الله والقرب منه بأرق الألفاظ وأحناها:
{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود}.. وهكذا يطوف بهم في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين.
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب، ومن سوء تقدير القيم في الحياة، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب:
{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز}.
فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح، لا يريدون أن يدركوه:
{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول}..
وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة:
{وإنا لنراك فينا ضعيفاً}..
فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها.
{ولولا رهطك لرجمناك}..
ففي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الاعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب.
{وما أنت علينا بعزيز}..
لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة!
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية؛ فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه؛ وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية.
وعندئذ تأخذ شعيباً الغيرة على جلال ربه ووقاره؛ فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه؛ ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى في هذا الوجود، وبسوء الأدب مع الله المحيط بما يعلمون. ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة. ويفاصل قومه على أساس العقيدة، ويخلي بينهم وبين الله، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون:
{قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب}..
{أرهطي أعز عليكم من الله}..
أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس، وهم ضعاف، وهم عباد من عباد الله.. أهؤلاء أعز عليكم من الله؟.. أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله؟